الوفاء في طيء :ـ
هذه القصة من القصص الرائعة في تاريخ العرب تحكي عن وفاء العربي وصدقه وحسن تربيته ولو كان في ذلك حتفه :
خرج النعمان بن المنذر يوماً يتصيد على فرسه اليحموم ، فأجراه على أثر عيره ، فذهب به الفرس في الأرض ولم يقدر عليه ، وانفرد عن أصحابه ، وأخذته السماء ، فطلب ملجأ يلجأ إليه ، فدفع إلى بناء فإذا فيه رجل من طيء يقال له حنظلة ، ومعه امرأة له ، فقال لهما : هل من مأوى ؟
فقال حنظلة : نعم ! فخرج إليه ، فأنزله ، ولم يكن للطائي غير شاة ، وهو لا يعرف النعمان وقال لأمرأته : أرى رجلاً ذا هيئة وما أخلقه أن يكون شريفاً خطيراً ، فما الحيلة ؟
قالت : عندي شيءٍ من طحين كنت ادخرته ، فاذبح الشاة لأتخذ من الطحين خبز ملّة :
وأخرجت المرأة الدقيق ، فخبزت منه ، وقام الطائي إلى شاته فاحتلبها ثم ذبحها ، فاتخذ من لحمها مرقة مضيرة ، وأطعمه من لحمها ، وسقاه من لبنها ، واحتال حتى وجد له شراباً فأسقاه ، وجعل يحدثه بقية ليلته .
فلما أصبح النعمان لبس ثيابه ، وركب فرسه ، ثم قال : يا أخا طيء ، اطلب ثوابك ، أنا الملك النعمان ! قال أفعل إن شاء الله .
ثم لحق الخيل ، فمضى نحو الحيرة ، ومكث الطائي بعد ذلك زماناً حتى أصابته نكبة وجهد ، وساءت حالة ، فقالت له امرأته : لو أتيت الملك لأحسن إليك ؟ فاقبل حتى انتهى إلى الحيرة ، فوافق يوم بؤس النعمان ، فإذا هو واقف في خيله في السلاح .
فلما نظر إليه النعمان عرفه ، وساءه مكانه ، فوقف الطائي ، المنزول به ، بين يدي النعمان ، فقال له : أنت الطائي المنزول به ؟
قال : نعم .
قال : أفلا جئت في غير هذا اليوم !
قال : أبيت اللعن ! وما كان علمي بهذا اليوم ؟
قال : والله لو سنح لي في هذا اليوم قابوس ابني لم أجد بداً من قتله ، فاطلب حاجتك من الدنيا ، وسل ما بدا لك فإنك مقتول !
قال : أبيِّت اللعن ! وما أصنع بالدنيا بعد نفسي ؟
قال النعمان : إنه لا سبيل إليها .
قال : فإن كان لابد فأجلني حتى ألّم بأهلي ، فأوصي إليهم وأهيء حالهم ، ثم انصرف إليك .
قال النعمان : فأقم لي كفيلاً بموافقتك .
فألتفت الطائي إلى شريك بن عمرو بن قيس من بني شيبان ، وكان يكنى ابا الحوفزان ، وكان صاحب الردافة ، وهو واقفٌ بجنب النعمان فقال له الطائي :
يا شريكاً يا ابن عَمْرو = هلْ من الموت محالة
يا أخا كلّ مضافٍ = يا أخا من لا أخا له
يا أخا النعمان فك الـ = يوم ضيفاً قد أتى له
طالما عالج كرب الـ = موت لا ينعم باله
فأبى شُريك أن يتكفل به ! فوثب إليه رجل من كلب يقال له قُراد بن أجدع ، فقال للنعمان : أبيت اللعن ! هو عليّ !
قال النعمان : أفعلت ؟
قال : نعم ، فضمنه إياه ، ثم أمر للطائي بخمسمائة ناقة ؟ فمضى الطائي إلى أهله ، وقد جعل الأجل حولاً من يومه ذلك إلى مثل ذلك اليوم من قابل ، فلما حال عليه الحول وبقي من الأجل يوم ، قال النعمان لقراد : ما أراك إلا هالكاً غداً .
فقال قراد :
فإن يكُ صدْرُ هذا اليوم ولّى = فإنّ غَدَاً لِنَاظِرِه قريب
فلما أصبح النعمان ركب في خيله ورَجلِه متسلحاً كما كان يفعل حتى أتى الغريين فوقف بينهما وأخرج معه قراداً ، وأمر بقتله ، فقال له وزراؤه : ليس لك أن تقتله حتى يستوفي يومه ، فتركه .
وكان النعمان يشتهي أن يقتل قراداً ليُفلت الطائي من القتل ، فما كادت الشمس تجُب وقرادٌ قائم على النطع والسيّاف إلى جنبه حتى أقبلت امرأته وهي تقول :
أيا عينُ بكي قرادَ بن أجدعا = رهيناً لقتل لا رهيناً مودعا
فبينما هم كذلك إذا رُفع لهم شخص من بعيد ، وقد أمر النعمان بقتل قراد ، فقيل له : ليس لك أن تقتله حتى يأتيك الشخص فتعلم من هو ؟ فكفّ حتى انتهى إليه الرجل ، فإذا هو الطائي !
فلما نظر إليه النعمان شقّ عليه مجيئه ، فقال له : ما حَملك على الرجوع بعد إفلاتك من القتل ؟
قال : الوفاء ، قال : وما دعاك إلى الوفاء ؟
قال : ديني .
قال النعمان : وما دينك ؟
قال : النصرانية .
قال النعمان : فاعرضها عليّ ، فعرضها عليه فتنصّر النعمان وأهل الحيرة جميعهم ، وترك القتل منذ ذلك اليوم وأبطل تلك السنة وأمر بهدم الغَريّين وعفا عن قراد والطائي ، وقال : والله ما أدري أيهما أوفى وأكرم ، أهذا الذي نجا من القتل فعاد ، أم هذا الذي ضَمنه ؟ والله لا أكون ألأم الثلاثة ، فأنشد الطائي يقول :
ما كنتُ أخلفُ ظنّه بعد الذي = أسدَى إليّ من الفعال الخالي
ولقد دعتني للخلاف ضلالتي = فأبيتُ غير تمجّدي وفعالي
إنّي امرؤٌ منّي الوفاء سجيّة = وجزاء كل مكارم بذالِ
وقال الطائي يمدح قراد بن الأجدع :
ألا إنما يسمو إلى المجد والعلا = مخاريق أمثال قراد بن أجدعا
مخاريف أمثال القراد وأهله = فإنهم الأخيار من قوم تبّعا
.. يــــتــــبــــع