كتاب جمهرة أنساب العرب
جمهرة أنساب العرب
ابن حزم الأندلسي
قال ابن حزم رحمه الله :
علم النسب علم جليل رفيع، إذ به يكون التعارف. وقد جعل الله تعالى جزءاً منه تعلمه لا يسمع أحداً جهله، وجعل تعالى جزءاً يسيراً منه فضلاً تعلمه، يكون من جهله ناقص الدرجة في الفضل. وكل علم هذه صفته فهو علم فاضل، لا ينكر حقه إلا جاهل أو معاند.
نسخ وترتيب مكتبة مشكاة الإسلامية
---
الجزء الأول
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم: قال أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب الأندلسي.
الحمد لله مبيد كل القرون الأول، ومديل الدول، خالق الخلق، باعث محمد -صلى الله عليه وسلم- بدين الحق.
أما بعد، فإن الله عز وجل قال: "إنا خلقنكم من ذكر وأنثى وجعلنكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقكم".
حدثنا عبد الله بن يوسف بن نامى: حدثنا أحمد بن فتح: نا عبد الوهاب ابن عيسى: نا أحمد بن محمد: نا أحمد بن علي: نا مسلم بن الحجاج: نا زهير بن حرب، ومحمد بن المثنى، وعبيد الله بن سعيد؛ قالوا: حدثنا يحيى ابن الخطاب: نا سعيد بن أبي سعيد، هو المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة: قيل: يا رسول الله من أكرم الناس? قال: "أتقاهم?" قالوا: ليس عن هذا نسألك قال: "يوسف، نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله". قالوا: ليس عن هذا نسألك قال: "فمن معادن العرب تسألوني? خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا".
وإن كان الله تعالى حكم بأن الأكرم هو الأتقى، ولو أنه ابن زنجية لغية، وأن العاصي والكافر محطوط الدرجة، ولو أنه ابن نبيين، فقد جعل تعارف الناس بأنسابهم غرضاً له تعالى في خلقه إيانا شعوباً وقبائل؛ فوجب بذلك أن علم النسب علم جليل رفيع، إذ به يكون التعارف. وقد جعل الله تعالى جزءاً منه تعلمه لا يسمع أحداً جهله، وجعل تعالى جزءاً يسيراً منه فضلاً تعلمه، يكون من جهله ناقص الدرجة في الفضل. وكل علم هذه صفته فهو علم فاضل، لا ينكر حقه إلا جاهل أو معاند.
فأما الفرض من علم النسب، فهو أن يعلم المرء أن محمداً -صلى الله عليه وسلم- الذي بعثه الله تعالى إلى الجن والإنس بدين الإسلام، هو محمد بن عبد الله القرشي الهاشمي، الذي كان بمكة، ورحل منها إلى المدينة. فمن شك في محمد -صلى الله عليه وسلم- أهو قرشي، أم يماني، أم تميمي، أم أعجمي، فهو كافر، غير عارف بدينه، إلا أن يعذر بشدة ظلمة الجهل؛ ويلزمه أن يتعلم ذلك ويلزم من صحبه تعليمه أيضاً.
ومن الفرض في علم النسب أن يعلم المرء أن الخلافة لا تجوز إلا في ولد فهر ابن مالك بن النضرين كنانة؛ ولو وسع جهل هذا لأمكن إدعاء الخلافة لمن لا تحل له؛ وهذا لا يجوز أصلاً. وأن يعرف الإنسان أباه وأمه، وكل من يلقاه بنسب في رحم محرمة، لتجنب ما يحرم عليه من النكاح فيهم. وأن يعرف كل من يتصل به برحم توجب ميراثاً، أو تلزمه صلة أو نفقة أو معاقدة أو حكماً ما، فمن جهل هذا فقد أضاع فرضاً واجباً عليه، لازماً له من دينه.
حدثنا أبو محمد عبد الله بن ربيع التميمي قال: نا أبو بكر محمد بن معاوية القرشي الهاشمي: نا أبو عبد الله الحسن بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، قال: حدثني أبي: نا أبو ضمرة أنس بن عياض: نا عبد الملك بن عيسى الثقفي، عن عبد الله بن يزيد مولى المنبعث، عن أبي هريرة قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم؛ فإن صلة الرحم محبة في الأهل، مثراة في المال، منسأة في الأجل، مرضاة للرب".
قال أبو محمد علي بن أحمد بن حزم: الحسن المذكور في هذا الحديث، الذي رواه عنه محمد بن معاوية هذا، هو الحسن الأطروش الذي أسلم الديلم على يديه.
قال علي بن أحمد: وأما الذي تكون معرفته من النسب فضلاً في الجميع، وفرضاً على الكفاية، نعني على من يقوم به من الناس دون سائرهم، فمعرفة أسماء أمهات المؤمنين، المفترض حقهن على جميع المسلمين، ونكاحهن على جميع المؤمنين حرام؛ ومعرفة أسماء أكابر الصحابة من المهاجرين والأنصار -رضي الله عنهم- الذين حبهم فرض. وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار?".
فهم الذين أقام الله بهم الإسلام، وأظهر الدين بسعيهم. وكذلك صح أنه -عليه السلام- أمر كل من ولى من أمور المسلمين شيئاً أن يستوصى بالأنصار خيراً، وأن يحسن إلى محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم.
قال علي: فإن لم نعرف أنساب الأنصار، لم نعرف إلى من نحسن ولا عمن نتجاوز؛ وهذا حرام. ومعرفة من يجب له حق في الخمس من ذوي القربى؛ ومعرفة من تحرم عليهم الصدقة من آل محمد -عليه السلام- ممن لا حق له في الخمس، ولا تحرم عليه الصدقة. وكل ما ذكرنا، فهو جزء من علم النسب.
فوضح بما ذكرنا بطلان من قال إن علم النسب علم لا ينفع، وجهالة لا تضر، وصح أنه بخلاف ما قال؛ وأنه علم ينفع وجهل يضر. وقد أقدم قوم فنسبوا هذا القول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال علي: وهذا باطل ببرهانين: أحدهما: أنه لا يصح من جهة النقل أصلاً؛ وما كان هكذا فحرام على كل ذي دين أن ينسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ خوف أن يتبوأ مقعده من النار، إذ تقول عليه ما لم يقل. والثاني: أن البرهان قد قام بما ذكرناه آنفاً على أن علم النسب علم ينفع، وجهل يضر في الدنيا والآخرة، ولا يحل لمسلم أن ينسب الباطل المتيقن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وهذا من أكبر الكبائر.
وفي الفقهاء من يفرق في أخذ الجزية وفي الاسترقاق، بين لعرب وبين العجم ويفرق بين حكم نصارى بني تغلب وبين حكم سائر أهل الكتاب في الجزية وإضعاف الصدقة؛ فهؤلاء يتضاعف الفرض عندهم في الحاجة إلى علم النسب. وقد قص الله تعالى علينا في القرآن ولادات كثير من الأنبياء -عليهم السلام- وهذا علم نسب.
وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتكلم في النسب فقال: "نحن بنو النضر بن كنانة" وذكر أفخاذ الأنصار -رضي الله عنهم- إذ فاضل بينهم. فقدم بني النجار، ثم بني عبد الأشهل، ثم بني الحارث بن الخزرج، ثم بني تميم، وبني عامر بن صعصعة وغطفان. وأخبر -عليه السلام- أن مزينة، وجهينة، وأسلم، وغفارا، خير منهم يوم القيامة. وذكر بني تميم وشدتهم على الدجال.
وأخبر -عليه السلام- أن بني العنبر بن عمرو بن تميم من ولد إسماعيل. ونسب الحبشة إلى أرفدة. ونادى فريشاً بطناً بطناً، إذ أنزل الله عليه: "وأنذر عشيرتك الأقربين"، وكل هذا علم نسب.
قال علي: وكل هذا يبطل ما روى عن بعض الفقهاء من كراهية الرفع في النسب إلى الآباء من أهل الجاهلية؛ لأن هؤلاء الذين ذكر النبي صلى الله عليه وسلم آباءٌ جاهليون. وقد قال عليه السلام:
أنا النبـي لا كـذب
أنا ابن عبد المطلب
حدثنا محمد بن سعيد بن نبات: نا عبد الله بن نصر: نا قاسم بن أصبغ: نا محمد بن وضاح: نا موسى بن معاوية: نا وكيع: نا هشام بن عروة، عن أبيه، قال: قال عمر بن الخطاب: "نعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم".
وكان أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- وأبو الجهم بن حذيفة العدوي، وجبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف، من أعلم الناس بالأنساب. وكان عمر، وعثمان، وعلي، به علماء، رضي الله عنهم، وإنما ذكرنا أبا بكر، وأبا الجهم بن حذيفة، وجبيراً قبلهم، لشدة رسوخهم في العلم بجميع أنساب العرب. وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، حسان بن ثابت رضي الله عنه، أن يأخذ ما يحتاج إليه من علم نسب قريش عن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- وهذا يكذب قول من نسب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن النسب علم لا ينفع، وجهل لا يضر؛ لأن هذا القول لا يصح، وكل ما ذكرنا صحيح مشهور منقول بالأسانيد الثابتة، يعلمها من له أقل علم بالحديث.
للتحميل
سجل لمشاهدة الروابط
|